رائحة القرفة تعبق في الهواء من فنجان القهوة الذي تحتسيه الجدة على شرفتها بالسيدة زينب، بينما يغطي الليل ببطء سماء القاهرة. النجوم تظهر فوق مآذن المدينة، تتلألأ كأنها تشاركنا لحظة استثنائية.
"ستي، يلا بقى، احكيلنا حكايات الستات اللي غيروا مصر!" تقول جنى بحماسة وهي تجلس على الأرض متربعة، عيناها تتوهجان بفضول لا ينطفئ.
"آه يا جنى... مصر مليانة ستات عظيمة, كل واحدة فيهم عندها حكاية زي الحلم؛ مليانة كفاح وشجاعة وصبر. تعالوا يا أولادي، اسمعوا وشوفوا كيف كانت الست المصرية وما زالت... عظيمة."
حتشبسوت: عن ملكة تحدّت التاريخ
تتنحنح الجدة قليلاً وتبدأ: "خليني أبدأ معاكوا بحتشبسوت، الملكة اللي قررت إنها ما تمشيش على الطريق اللي المجتمع رسمه لها."
"حتشبسوت؟ اللي في مادة التاريخ؟" يقاطعها علي، أكبر الأحفاد، وهو يجلس على الكرسي المقابل. "دي بتاعت معبد الدير البحري، صح؟"
"بالضبط يا علي. بس اللي ما قالهوش كتب التاريخ قبل كدا هو قد إيه كانت شجاعة. لما مات جوزها، كان المفروض تبقى وصية على ابنه، لكن بدلاً من كده قررت إنها تحكم بنفسها. لبست زي الفراعنة الرجالة، حتى لحية مستعارة، عشان تقول: أنا الملك."
"طب والناس؟ أكيد عارضوها!" يقول سامح، الذي كان يقلب بين صفحات هاتفه قبل أن يتوقف ليستمع بفضول.
"عارضوها، طبعًا. فيه ناس شافت إنه مش مكانها، لكنها كانت أقوى من كلامهم. بنت معابد زي معبد الدير البحري اللي زرناه سوا السنة اللي فاتت. أرسلت بعثات تجارية لأماكن بعيدة. مصر وقتها كانت أغنى وأقوى بسببها."
"بس ليه حاولوا يمحوا اسمها بعد ما ماتت؟" تسأل جنى، تعبيرها يحمل خليطاً من الارتباك والحزن.
تبتسم الجدة ابتسامة حزينة. "عشان العالم يا حبيبتي مش دايمًا بيحب يعترف بقوة الستات. لكن تخيلي! مهما حاولوا يمحوا اسمها، لسه بنحكي عنها لحد النهاردة. التاريخ ما بينساش الحق."
هدى شعراوي: المرأة التي تحدّت المجتمع
"طب ستي، مش بس الفراعنة، صح؟ أكيد فيه ستات تانية غيروا المجتمع في وقت قريب!" تقول ياسمين اصغرهم، بينما تسند رأسها على ركبة الجدة.
"أكيد يا ياسمين. خدي مثلًا هدى شعراوي."
"دي اللي حاربت عشان حقوق الستات؟" يسأل علي، وهو يعقد ذراعيه في اهتمام.
"مش بس كده يا علي. تخيلوا بنت من عيلة غنية جدًا عايشة حياة مريحة جدًا، لكنها كانت شايفة بنات حوالين مصر ما بيعرفوش يروحوا مدارس ولا حتى يقدروا يشتغلوا، فا قررت إنها تعمل حاجة."
"إيه اللي عملته؟" يسأل سامح بحماس، وهو يضع هاتفه جانباً تمامًا.
"امي حكيتلي انه في سنة 23 نزلت هدى من القطر في محطة مصر، وشالت الطرحة قدام الناس كلها. كان فعل شجاع جدًا وقتها. كانت بتقول: الست المصرية مش محتاجة تكون مخبّية."
"بس كان أكيد فيه ناس معترضين برده، صح؟" تسأل ياسمين بصوت خافت.
"معترضين؟ أكيد. لكن هدى ما خافتش. أسست جمعيات تساعد البنات تتعلم وكانت أول واحدة تقول إن للستات حق التصويت في الانتخابات. رغم كل شيء، فضلت مكملة لحد آخر يوم في حياتها."
"ياه لو إحنا كمان بيقنى زيها لما نكبر!" تقول جنى وهي ترفع رأسها، الحماس يلمع في عينيها وتبتسم الجدة.
سميرة موسى: عالمة الذرة التي لم تُنسَ
"طيب أنا سمعت عن واحدة كانت بتدرس الذرة!" يقول سامح فجأة، وهو يضع يده تحت ذقنه. "احكيلنا عنها يا ستي."
"أكيد، سميرة موسى." تقول الجدة بابتسامة. "دي كانت بنت فلاح بسيط، والدها كان بيقولها دايمًا: ’العلم هو السلاح الحقيقي’ وسميرة صدقته. درست الفيزياء النووية، وكانت أول بنت مصرية تدخل مجال الذرة."
"مش معقول!" يقول علي، مدهوشًا. "وهو في وقتها كان فيه أصلاً ستات في الكليات؟"
"لا، ومش بس كده. سافرت أمريكا ودرست هناك كمان وكانت بتقول إنها عايزة تخلي العلاج بالذرة أرخص من رغيف العيش. تخيلوا حلمها!"
"بس ليه ما بنسمعش عنها دلوقتي؟" تسأل جنى بحزن.
"لأنها ماتت في حادثة غامضة هناك. في ناس كتير بيقولوا إنه ما كانش حادث وكان تهديد لكبار العلماء وقتها، بس الحلم اللي زرعته فينا ما لازم مايمتش."
نوال السعداوي: الكتابة سلاح
"طيب، ستي، احكيلنا عن اللي كتبت عن حقوق الستات!" تقول ياسمين بحماس، عيناها تشعّان بالفضول.
"نوال السعداوي؟ كانت طبيبة وكاتبة، كتبت عن كل حاجة كان المجتمع بيحاول يخبّيها. عن حق البنت في اختيار حياتها، عن ختان البنات، ن الزواج المبكر."
"أكيد كرهها ناس كتير، صح؟" يسال سامح.
"كرهوها بس؟ دول هددوها وحتى سجنوها. لكن نوال كانت أقوى من الخوف. كانت بتقول: 'ما حدش يقدر يكمّم الحقيقة.' كتابتها كانت سلاح، وما زالت بتلهم ستات وبنات كتير لحد النهاردة."
---
"طب تيتا، إحنا ممكن نكون زيهم؟" تسأل ياسمين بصوت خافت، وهي تنظر لجدتها بتردد.
تضع الجدة ذراعها حول كتف ياسمين بحنان. "كل واحد فيكم، ولد أو بنت، يقدر يكون زيهم. الشجاعة مش بس كلمة، هي فعل. لما تشوف حاجة غلط وتقرر تغيرها، وقتها بتبدأ تكون جزء من التغيير. زي حتشبسوت وهدى وسميرة ونوال. كل خطوة صغيرة بتاخدوها، بتفتح باب للي جاي بعدكم."
---
الليل يُسدل ستائره على القاهرة، لكن الشرفة تبقى مضاءة. ليست فقط بضوء المصابيح، بل بحكايات تشعل القلوب بالحماس والأمل. كل كلمة من الجدة تنسج خيطًا يربط الماضي بالمستقبل، ويزرع في الأحفاد حبًا لا ينتهي للمعرفة التي تغيّر العالم.