تور مفتَّح





كنا بنهاية أحد ورديات العمل حين وجدت زميلًا لنا يجلس في صمت وآثار الإجهاد بادية على وجهه، دائمًا ما ينشر ذلك الزميل الكثير من الطاقة والبهجة ببيئة العمل -فلنسميه "س." طاقته تلك كثيرًا ما كانت تثير حسد وحنق بعضهم، ورغم ذلك فهو محبوب من قِبل أغلبنا، وإن كان أغلبنا حذرني من خبثه أو مقالبه اللطيفة كما يسمونها.

جلست إلى جواره وسألته عن السبب وراء ذلك التغير الملحوظ، نظر وفي صمت تام نظر إلي نظرة أرسلت مثقلة بالهموم والأحزان، فشجعته للذهاب إلى كافيه أم الدنيا.

إن كانت في الواقع قهوة بلدي، ولكنها تحمل لقب "كافيه" لتتناسب مع العصر ومتطلباته، وهذه القهوة تقع على بُعد أمتار قليلة من مقر عملنا، اعتدنا الجلوس بها، رغم أننا في الغالب ما نجد موظفين آخرين يحتلون كراسيها الخشبية العتيقة، وآثار تعب اليوم تغطي وجوههم، ولذلك تحول اسم القهوة تدريجيُا من اسمها الحقيقي لشتيمة سائدة!

أتي القهوجي فطلبت قهوة بندق، وهي قهوتي المفضلة، لإحساسي بأن الموضوع الذي سأسمعه من س كبير ويحتاج إلى تركيز، بينما أراد س ينسون لينعش أحباله الصوتية.

قلت له ببساطة: "إحكي!"

"إنت عارف إن أنا أصلًا من الريف؟!" هززت رأسي بالإيجاب، ولعلها من الأسباب التي تجعل س مُحبب إلى قلبي، فأرى في الريف الكثير من الصفاء والبساطة، وإن زحفت إليه تعقيدات المدن، ولكن يظل الريف مصدر كثير من السلام وراحة البال في تصوري.

أخذ رشفة من كوبه، وقال: "زمان، كنت بشوف التور في بلدنا وهو بيدور في الساقية مغميين عينيه، وكنت مش عارف السبب، إنت عارفه؟" 
رددت بتلقائية: "عشان ميدوخش؟"
صحح خطأي: "عشان مايتجننش!"

استرسل في حديثه وشرح لي أزمته الوجودية التي أصابته مؤخرًا، ففي رأيه نحن جميعًا مثل ذلك الثو؛ ندور ونستمر في الدوران لعل المهام التي على كاهلنا تنتهي، لا شيء ينتهي، فنُعيد الكرَّة باليوم التالي، فنحمل الصخرة على أكتافنا مرة أخرى أعلى الجبل؛ لتتدحرج إلى سفحه، ونعيد المشهد.

استنشق نفسًا عميقًا من نارجيلته لينفث دخانها في محيطه، فتنتشر رائحة المعسل بالمكان.
استكمل: "عارف؟ التور على الأقل مش عاقل بس بيحس، إحنا عاقلين ومطلوب مننا منحسش، كل واحد مطلوب منه يبقى تور، بس تور مِفتَّح، إنت دايمًا في حاجة مخلياك تكمِّل؛ فلوس، تحقيق ذات، سعادة عامةً، بس في لحظة بتنخ، لو نخيت هيبدلوك زي أي ترس صغير في الآلة الكبيرة دي!"

أخبرني بأنه يحاول الحفاظ على طاقته، ويحقن نفسه "بفيتامينات برود" ليستطيع الاستمرار في تلك الحياة، ولكنه يفقد حياته بالتدريج، جسد حي بلا روح، الحياة تدفعه إلى ذلك الاتجاه، أن يتحول إلى آلة تعجز عن الفرح، وتمتنع عن الحزن، ولا يصيبها الألم، فلا وقت لتلك الرفاهية!

أنهي كوب الشاي، وأسرع س يلملم أغراضه وهو ينظر إلى ساعته، واعتذر عن عدم جلوسه لوقت أطول لارتباطه بميعاد عمل.

لا أدري إن كان س حدثني عما يدور في الواقع بنفسي أم أنها إحدى مقالبه الخفيفة التي طلب من خلالها ينسون ومعسل وشاي؛ لأقوم أنا بدفع الحساب!