انسان آخر




تذكر معى هذه اللحظات الأليمة التى حُفرت فى ذهنك، عندما سقطت داخل مستنقعك الخاص من الآلام والهزائم المتكررة  -التى كادت أن تكون محفوظة عن ظهر قلب- فى أعمق نقطة فى قلبك، قلب هذا الإنسان الضائع، فقيد الأمل، و منعدم الإحساس بالحياة، هذا الإنسان العادى، العادى جداً، محدود المواهب و الذكاء، طريد الحزن واليأس، فى هذا المستنقع المليء بالأوجاع الدفينة التى تكمن فى: سقطاتك، خطاياك، مذكراتك التى تشتكي إليها دوماً لافتقادك روح الصداقة النقية من الآخرين، آثار مخالب الخوف و القلق على جسدك، ابتساماتك المزيفة التى كانت دوماً تختبئ وراءها أطنان من الدموع التى تترقب أقرب فرصة للانهمار، كوابيسك التى تطاردك و التى لازلت -حتى الآن- لا تعلم ماهيتها، أوقات ضعفك، إحساسك الدائم بالنقص، إيثارك الآخرين على نفسك المبالغ فيه، سذاجتك، عثراتك، وتخيلك الدائم للمشاهد المأساوية التى تخشاها أن تحدث على أرض الواقع قبل نومك والتى لم يكن لها أى صلة بالواقع من الأساس. و تأتى لك تلك الذكريات لتصفعك على وجهك فتوقعك ذليلاً على الأرض كجندى تجرد من الأسلحة فى المعركة، تلك المعركة التى نسميها نحن البشر "الحياة"، و تبكى قهراً لظنك أنها النهاية، ثم تلجأ الى الله كأى بَشَرِى أصابه اليأس بعد رحلة الكفاح الطويلة التى لم تجدى نفعاً، و تنتحب كأنك تُخرج كل ما بداخلك من غل و كره لهذه الحياة و تلعنها بداخلك و لسخرية قدرها بك، و تستنجد به و انت تعلم أنك مقصر فى حقه أو ربما تتكاسل بعض الاحيان عن أداء واجباتك تجاهه، تبكى بحرقة و تتوسل إليه أن ينجيك و تفوض كل ذرة من كيان هذا الجسد الهزيل إليه وأنت تعلم أنه يسمعك من قبل أن تتفوه بحرف، تدعوه وتتوسل إليه بدموع العبد الضعيف الذى وقف عاجزاً أمام قدرته و جلال وجهه الكريم، فهو على دراية بكل هذا، من قبل حتى أن تتفوه أنت ببنت شفة. فينتشلك برحمته التى وسعت كل شيء من هذا المستنقع الموحش، و ترى العالم بعين أخرى لم تدرك وجودها طوال سنواتك التى قضيتها فى هذه الدنيا الفانية البالية القاسية، وتمسى إنساناً آخر..مليئاً بالبهجة، و تشع عيناك ضياء التفاؤل و الأمل المستمرين، تعود لمعة عينيك من جديد، تضيء روحك، وتلتأم جروحك، يُرمم ما حدث بك من خراب، و تقف فى منتصف تلك اللحظات السعيدة التى لم تتخيل أن تكون وليدها، وتبتسم، لا ابتسامة زائفة و مصطنعة، بل هى حقا نابعة من اعماق قلبك، حينها فقط ...تشعر بمعنى الحياة!